تسعى الدولة من خلال الموازنة العامة إلى تحديد
حجم الإنفاق العام مقارنة بالإيراد العام؛ كيلا تقع في عجز مالي، وللوصول إلى هذا الهدف
تخطط نفقاتها العامة الاقتصادية والاجتماعية استناداً إلى الإيرادات المتوقعة التي
تستند في تقديرها إلى معدلات نحو الناتج المحلي وحالة الاقتصاد الوطني، وهذا ما يسمى
في علم السياسة المالية بحالة التدبير المالي.
أما مفهوم السياسة المالية فهو أوسع من ذلك بكثير،
إذ يتعدل الأمر لاتخاذ إجراءات يمكن من خلالها إدارة المال وتفعيل الآثار الإيجابية
لإنفاقه، واستناداً إلى ذلك يصبح تعريف السياسة المالية كما يلي:
"هي كافة الوسائل
المالية التي تتدخل الدولة من خلالها للتأثير في حجم الطلب الإجمالي والتأثير على مستوى
التشغيل الوطني وحجم الدخل القومي".
وهذا المفهوم يركز على تأثير الأدوات المالية للدولة
في الحياة الاقتصادية للبلاد وفق الأهداف التي تضعها لنفسها أو تفرضها الحالة الاقتصادية
التي تعيشها، فالسياسة المالية الحديثة في ظل الدولة المتدخلة أصبحت تهدف إلى تحقيق
الاستقرار الاقتصادي وليس مجرد تحقيق التوازن المالي الحسابي فقط كما ذكر سابقاً. وقد
بدأ هذا المفهوم الجديد للسياسة المالية مع الاقتصادي كينز وأتت حلاً لمشكلة الأزمات
الاقتصادية والكساد الكبير الذي ساد العالم في الثلاثينات من القرن الماضي، فالسياسة
المالية الكينزية كانت سياسة توسعية وقد ركز كينز في نظريته على تفعيل دور الحكومة
في الحياة الاقتصادية عن طريق زيادة حجم الإنفاق العام، عبر الآثار الناجمة عن ذلك
التي تتوقف على مصادر تمويل هذه الزيادة.
والسياسة المالية الكينزية أخرجت المالية العامة
من إطار التوازن المالي إلى إطار التوازن الاقتصادي، وعدت أدوات المالية العامة وسائل
لتحقيق أهداف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية، فأصبحت تستخدم القروض العامة إلى جانب
الضرائب لتحقيق هذه الأهداف، بحيث تسهم في تمويل الإنفاق العام الذي تؤثر من خلاله
في الطلب الكلي الذي يحفز المنتجين على زيادة الإنتاج الذي يؤدي بدوره إلى زيادة نسبة
التشغيل وبالتالي نقل حالة الاقتصاد إلى حالة فضلى.
ثانياً ـ نشأة مفهوم السياسة المالية والفرق بينها
وبين المالية العامة:
1ـ نشأة مفهوم السياسة
المالية وتطوره:
ـ تعد السياسة المالية من المفاهيم التي طرأ عليها
تحولات كبيرة في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والمالي، فهي المرآة لدور الدولة الاقتصادي
والاجتماعي وتشكل انعكاساً له في كل عصر.
ـ ففي العصور القديمة كان دور السياسة المالية باهتاً
جداً، ولم تكن هنالك دلالات واضحة على تكوين سياسة مالية قائمة ومنظمة ومنفصلة عن مالية
الحكام في تلك العصور، وكانت مالية الدولة مرتبطة بمالية الحاكم وله فيها حق التصرف
المطلق، ولا يوجد عليه أي رقابة، ويعود السبب في ذلك إلى عدم اهتمام المفكرين القدماء
بذلك وبساطة الحياة الاقتصادية وقلة مشاكلها وضآلة وزن الاعتبارات المالية فيها، سواء
في العصر الفرعوني أم في العصر اليوناني أم الروماني.
ـ أما في العصر الإسلامي ونظراً للدور الكبير الذي
أدته الدولة في ذلك العصر في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فقد ظهر دور
الأدوات المالية الإسلامية في تحقيق أهدافها في تلك المجالات وتكونت نظرية متكاملة
للمالية العامة في الإسلام ولدورها في تحقيق الأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها،
فانفصلت مالية الدولة عن مالية الحكام وتكون بيت مال المسلمين وتكونت قواعد أساسية
تحكم السياسة المالية في الفكر الإسلامي بدءاً من عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وعرفت
مفهوم المال العام ووضعت قواعد أساسية تحكم هذه المالية. فأخذ الدولة للمال العام يجب
أن يكون بعدالة وفي حدود الإنفاق على الأهداف التي تسعى إليها من دون تبذير، فالإنفاق
العام يجب أن يكون الغرض منه مشروعاً وأوجه الإنفاق العام كالإيرادات العامة محددة
بدقة في القرآن والسنة ومصادر الفقه الإسلامي الأخرى، وهذه السياسة قامت على فلسفة
تقوم على أن الإنسان حاكماً أو محكوماً هو مستخلف في المال الذي بحوزته ومسؤول عنه
في كيفية الحصول عليه وإنفاقه أمام الله تعالى أولاً قبل أن يكون مسؤولاً عنه في الدنيا.
ـ أما في العصور الوسطى في أوربا ـ أي الفترة الواقعة
بين سقوط روما عام 476 ميلادية وفتح القسطنطينية عام 1453 ميلادية ـ فقد ساد فيها النظام
الإقطاعي وغابت عنها السلطة المنظمة وحلت الإقطاعية محل الدولة، وأصبح كل إقطاعي يعد
الإقطاعية التي يملكها هي وحدة اجتماعية واقتصادية وسياسية مستقلة عن غيرها وتداخلت
ماليته مع مالية هذه الإقطاعية، فلم يميز بين إنفاقه على أهله وإنفاقه على الخدمات
الإقطاعية وتحالف رجال الدين مع الإقطاعيين الذين منحوا الامتيازات في فرض الضرائب
على إقطاعيتهم وغاب في ظل هذا النظام مفهوم السياسة المالية وكذلك المالية العامة،
وكان الهدف الأهم لها هو تغطية النفقات المتزايدة للحاكم على إقطاعيته التي يفرضها
ويصرفها ويحدد أهدافها من دون أي رقيب. ومع بداية نشأة الرأسمالية في أوربا وإعادة
تشكيل الدولة الحديثة عاد مفهوم المالية العامة إلى الظهور، وأدت الدولة دوراً حيوياً
في تراكم رأس المال التجاري وإقامة الصناعات، وكان هدف السياسة المالية في ذلك الوقت
هو بناء أسس نظام اقتصادي جديد يقوم على أساس تحويل المجتمع من مجتمع إقطاعي إلى مجتمع
رأسمالي وتوفير الشروط الأساسية لهذا التحول تمثلت في إيجاد المناخ المناسب لإقامة
المشروعات الخاصة وظهور طبقة الرأسماليين الجدد وتطويرها لهذا اتسع النشاط المالي للدولة
في بداية تشكل الرأسمالية. وبعد أن قامت الدولة بهذا الدور وحققت أهدافها في إرساء
أسس النظام الليبرالي تراجع دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وأصبحت أهداف السياسة
المالية فيها تقتصر على حماية هذه الأسس وترك النشاط الاقتصادي للمبادرة الفردية، وفي
ظل هذه الأفكار أصبحت السياسة المالية للدولة هي سياسة حيادية وتقلص نطاق النفقات العامة
إلى أقل مدى واقتصرت على الأعمال التي يصعب على الرأسمالي القيام بها والتي لا تدر
عليه ربحاً وذلك من أجل جعل الضرائب أقل ما يمكن كيلا تؤثر في تلك المبادرة، وأصبح
التوازن المالي هو هدف السياسة المالية في تلك الحقبة ودور المالية العامة اقتصر على
الهدف المالي المتمثل في الحصول على الإيرادات اللازمة والمساوية لتكاليف نفقاتها العامة
من دون أي هدف آخر، وكان للاقتصادي آدم سميث الدور الرئيس في تحديد ذلك في كتابه «ثروة
الأمم» المنشور عام 1776.
ـ إلا أن الأسس السابق ذكرها والتداعيات الناجمة
عن تطور العملية التصنيعية والتكنولوجية وأثر ذلك في الوضع الاجتماعي، وظهور الأزمات
الاقتصادية مهد الطريق لإعادة النظر في هذه الأسس فتطورت النظرة إلى المالية العامة
لتصبح سياسة تستخدم فيها الحكومة برامج الإنفاق العام والإيرادات العامة لتحدث آثاراً
مرغوبة في كل من مكونات الاقتصاد الكلي وتمنع عنها الآثار غير المرغوبة. ومنذ ذلك الوقت
تمايزت المالية العامة من مفهوم السياسة المالية وكان للاقتصادي جون مانيارد كينز الدور
الرئيس في ذلك في مؤلفه «النظرية العامة للتوظيف والفائدة والنقود» المنشور عام
1936، مما جعل الدولة تنتقل من مفهوم الدولة الحارسة إلى الدولة المتدخلة المسؤولة
عن تحقيق التوازن الاقتصادي الذي سمح لها بالتدخل بالحياة الاقتصادية والاجتماعية و
استمرار النمو والتنمية.
ـ ومع ظهور المشاكل الناجمة عن التمادي في استخدام
مفهوم عجز الموازنة من قبل بعض الدول وظهور أزمة المديونية العالمية ظهرت نظرية الكلاسيك
الجدد الأمريكية الصنع التي تدعو إلى تقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وحاولت
تعميمها على العالم، وعلى الرغم من صحتها جزئياً فهي لا تناسب ظروف الدول النامية وما
زالت السياسات المالية فيها بحاجة إلى مزيد من تدخل الدولة مع التركيز على إعادة الاعتبار
للدور الاقتصادي في هذا التدخل ليكون ذا آثار إيجابية في الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
لكن يبدو أن الأزمة المالية العالمية الحالية سوف تغيّر من الكثير من المفاهيم المالية
التي حاولت فرضها الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، فهي ذاتها ومن أجل حل هذه
الأزمة دعت ثانية إلى تدخل الدولة.
2ـ الفرق بين السياسة
المالية والمالية العامة:
يمكن تعريف علم المالية العامة بأنه العلم الذي
يبحث في جملة الوسائل المالية التي تستخدمها من نفقات وإيرادات وموازنة عامة لتحقيق
أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن خلال هذا التعريف يتبين أن هذا العلم
يهتم بالموضوعات التالية:
أ ـ ماذا يجب أن تكون وظيفة الحكومة في الاقتصاد؟
وماذا يجب أن تفعل الحكومة وماذا يتعين على المشروعات الخاصة أن تفعله؟ وعن الأنشطة
التي يجب أن تقوم بها الحكومة، وأيها يجب أن تتولاه الحكومة المركزية وأيها يجب أن
تتولاه الوحدات الإدارية المحلية؟
ب ـ ماذا يجب أن يكون عليه مستوى الإنفاق الحكومي؟
وكم ينفق على البرامج البديلة؟
ج ـ ما أنواع الضرائب التي يجب أن تفرضها الدولة
لتمويل تلك النفقات؟
د ـ ما مقدار الضرائب التي يجب تحصيلها في ظل الظروف
المختلفة؟ وما شكلها نسبية أو تصاعدية أو تنازلية؟
هـ ـ ما آثار الضرائب والإنفاق الحكومي في مكونات
الاقتصاد الكلي من استهلاك وادخار واستثمار وإنتاج وعمالة؟
و ـ كيف يمكن إعداد الموازنة العامة؟ وهل يجب أن
تكون متوازنة؟
ز ـ كيف يمكن تحقيق أهداف المالية العامة المتناقضة
من توظيف ونمو وتنمية اقتصادية واستقرار الأسعار؟
ح ـ كيف يجب أن يكون حجم الدين العام؟ وكيف يجب
أن يدار؟ وما آثاره الاقتصادية والمالية؟
فإذا كانت المالية العامة تهتم في توصيف المسائل
السابق ذكرها وتحليلها فإن مهمة السياسة المالية تتجلى في اتخاذ القرارات الملائمة
لكل حالة من الحالات السابقة، بمعنى أن السياسة المالية تهتم بالجانب التطبيقي والعملي
للمسائل المالية للدولة ودورها الاقتصادي والاجتماعي على ضوء الأهداف المحددة لها.
وبذلك تتضح العلاقة بين السياسة المالية والمالية
العامة بأنها ليست علاقة انفصال وتضاد بل علاقة تكامل واتصال، فالسياسة المالية تهتم
في كيفية استخدام عناصر المالية العامة في تحقيق الأهداف المرغوب بتحقيقها عبر الآثار
التي تحدثها هذه العناصر في الدخل والإنتاج والتوظيف وكل مكونات الاقتصاد الكلي في
حل المشاكل التي يعانيها مجتمع معين في وقت معين.
3ـ علاقة السياسة
المالية بغيرها من السياسات:
تستهدف السياسة المالية تحقيق أهداف متعددة تحتاج
معها إلى مساعدة عدة سياسات، ومن هنا تنشأ العلاقة بينها وبين غيرها من السياسات، كالسياسة
الاقتصادية والسياسة النقدية.
أ ـ علاقة السياسة المالية بالسياسة الاقتصادية:
يقصد بالسياسة الاقتصادية التأثير التوجيهي الذي
تمارسه الدولة على النشاط الاقتصادي، وكذلك مقدار تدخلها وتأثيرها في تحديد الإطار
الاقتصادي الذي تعمل الوحدات الاقتصادية من خلاله؛ لذلك توجد علاقة تبادلية بين هاتين
السياستين، فكلتاهما تؤثر وتتأثر بالأخرى. فالدراسة الصحيحة لآثار كل منهما ينبغي أن
تتم في كنف آثار السياسة الأخرى، ولبيان التأثير المتبادل بينهما ينبغي دراسة أثر السياسة
المالية في السياسة الاقتصادية، وأثر السياسة الاقتصادية في السياسة المالية من دون
إهمال دراسة أثر السياسة المالية في الناتج الاجتماعي في المجتمع.
ب ـ علاقة السياسة المالية بالسياسة النقدية:
يقصد بالسياسة النقدية مجموعة القواعد والوسائل
والأساليب والإجراءات والتدابير التي تقوم بها السلطة النقدية في الدولة للتأثير في
عرض النقود بما يلائم النشاط الاقتصادي لتحقيق أهداف اقتصادية معينة خلال فترة معينة،
والسياسة المالية تحتاج إلى التنسيق مع السياسة النقدية لأنهما فرعان للسياسة الاقتصادية
ونتيجة للتأثير المتبادل بينهما في تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية. فالسياسة النقدية
تؤثر في السياسة المالية والسياسة المالية تؤثر في السياسة النقدية من خلال الأهداف
المشتركة التي تسعى كل منها إلى تحقيقها ضمن إطار السياسة الاقتصادية، إلا أنه لكل
منهما أدواته، والمشكلة في ذلك تحديد متى تعمل أدوات كل منهما في تحقيق هذه الأهداف
المشتركة وأيهما أكثر تأثيراً في تحقيق هذه الأهداف، وكيف يتم التناغم بين هذه الأدوات
لتحقيق هذه الأهداف. فالمدرسة الأمريكية تؤكد أن السياسة النقدية بأدواتها أكثر فعالية
في تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية، والمدرسة الكينزية تؤكد أن السياسة المالية أكثر
تأثيراً في تحقيق تلك الأهداف.
ثالثاً ـ خصائص السياسة المالية:
من خلال تعريف السياسة المالية يمكن القول إنها تتميز بالخصائص التالية:
1ـ هي مجموعة من الإجراءات
المالية: فتتضمن الإجراءات مجموعة من القوانين والقرارات والترتيبات والعلاقات بين
الأفراد والدوائر المالية وغيرها من الأمور التي يمكن أن تضعها من أجل تصنيف هذه الإجراءات؛
حيث تشكل في مجموعها سياسة معينة من أجل الوصول إلى أهداف محددة تضعها الدولة لمعالجة
المشكلات التي يعانيها اقتصادها، والحالة التي يعيشها على المدى الطويل بعد دراسات
معمقة تقوم بها الدولة للبحث عن الوسائل والإجراءات المثلى لتحقيق هذه الأهداف، وترتيب
الإجراءات والأدوات المالية التي يجب أن تستخدمها الدولة للوصول إلى تلك الأهداف.
ففي أوقات الرواج الاقتصادي التي تزداد فيها معدلات
التضخم تتركز الإجراءات المالية على زيادة حجم الضرائب وتخفيض معدلات القروض العامة
والنفقات العامة من أجل تخفيض حجم الطلب الكلي وزيادة حجم العرض الكلي الذي يؤدي إلى
تخفيض معدلات التضخم.
وفي أوقات الكساد الاقتصادي الناجم عن زيادة العرض
الكلي ونقص الطلب الكلي لا بد للأدوات المالية أن تعمل على زيادة حجم الطلب الكلي عبر
زيادة حجم النفقات العامة لمواجهة العرض المتزايد ما أمكن.
2ـ السياسة المالية
تؤثر في مكونات الاقتصاد الكلي: لا بد لكل سياسة مالية من أن تحدد الحالة التي يكون
عليها الاقتصاد في البداية، لتحديد الهدف التي يجب عليها أن تعمل على تحقيقه ومن ثم
تقرير كيف يمكن أن تستخدم الأدوات المالية التي يمكن أن تسعى إلى تحقيق الهدف المحدد
الذي يناسب تلك الحالة التي يعيشها اقتصاد الدولة عبر تأثير هذه الأدوات في المتغيرات
الاقتصادية للحالة الاقتصادية التي يعيشها اقتصاد الدولة. فالضرائب تؤثر في الادخار
(تؤدي إلى تخفيضه عموماً) الذي يؤدي بدوره إلى نقص حجم الاستثمارات وبالتالي نقص حجم
الإنتاج الذي يؤثر في العرض الكلي (ينقصه)، والنفقات العامة تؤثر في العرض الكلي، فنقص
النفقات يؤدي إلى نقص العرض وزيادة حجم النفقات العامة يؤدي إلى زيادة الاستهلاك الذي
يؤدي إلى زيادة الطلب الذي يحفز العرض على الزيادة المطلوبة للوصول إلى حالة الاستقرار
الاقتصادي.
ـ وهذا يعني أن كل إجراء مالي يؤثر تأثيراً مباشراً
أو غير مباشر في المتغيرات الاقتصادية، وبالتالي يؤثر في الحالة الاقتصادية للبلاد؛
لذلك ينصح الاقتصاديون بعدم الإقدام على تغيير مفردات السياسة المالية قبل تحديد الأهداف
التي ينبغي تحقيقها، فالحالة هي التي تحدد الوسائل المالية التي تصل إلى الهدف المطلوب
بأقل كلفة ممكنة، وكل إجراء مالي لا يأخذ هذا الترتيب بالحسبان يؤدي إلى أهداف غير
مرغوب فيها في حقل السياسة الاقتصادية للدول.
3ـ تسعى إلى زيادة
معدلات النمو الاقتصادي على المدى الطويل: يجب أن تسعى كل سياسة مالية إلى زيادة معدلات
النمو في الناتج المحلي الإجمالي على المدى الطويل من أجل رفع معدل الرفاهية الاقتصادية
في المجتمع، وبالتالي يجب على أدوات السياسة المالية أن تعمل دائماً على تحقيق هذا
الهدف، وإن لم تحقق ذلك يمكن القول إن مكونات السياسة المالية غير مجانسة بعضها بعضاً
وقد تؤدي إلى أهداف غير مرغوب فيها؛ لذلك يجب على السياسة المالية أن تحدد حالة الاقتصاد
القائمة في البلد ومن ثم تختار الأدوات المالية المناسبة كي تسهم في زيادة حجم الطلب
الكلي على المدى الطويل، الأمر الذي يدفع إلى زيادة العرض الكلي في الاقتصاد الوطني
على هذا المدى، مع ملاحظة أن هذه الزيادة يجب أن تفوق نسبة الزيادة السكانية كي تؤدي
إلى زيادة معدل الرفاهية الاقتصادي في مستوى الاقتصاد الكلي على المدى الطويل.
ولزيادة معدلات النمو الاقتصادي عادة ينبغي استخدام
الأدوات المالية التالية:
أ ـ تخفيض معدلات الضرائب لتشجيع المنتجين على زيادة
الإنتاج (زيادة العرض).
ب ـ زيادة حجم الإنفاق العام في قطاع الخدمات الاجتماعية
بهدف زيادة الدخل لدى الطبقات الفقيرة وخاصة في قطاعي التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية.
ج ـ
زيادة حجم الإعانات الإنتاجية للقطاعات غير الرابحة وتنشيط الإنتاج في المناطق
النائية.
د ـ إقامة مشاريع القاعدة الأساسية بهدف جذب الاستثمارات
الوطنية والأجنبية في القطاعات التي ترغب الدولة بتطويرها وتحفيزها.
رابعاً ـ أهداف السياسة المالية:
إن السياسة المالية أصبح لازماً عليها أن تعمل على
تحقيق الاستقرار في جوانب الاقتصاد الوطني وبالتالي تحقيق الأهداف التالية:
1ـ الاستقرار المالي:
ويقصد به استخدام موارد الدولة على أحسن وجه، فينبغي مثلاً أن يتسم النظام الضريبي
بالصفات التي تجعله يلائم حاجات الخزينة العامة من حيث المرونة والوفرة في الحصيلة،
ويلائم في الوقت نفسه مصلحة المكلف من حيث العدالة في توزيع العبء الضريبي ومواعيد
الجباية والاقتصاد في الجباية… إلخ، كما يجب أيضاً عدم استخدام القروض إلا لأغراض إنتاجية
والابتعاد عن استخدام القروض العامة لتمويل أغراض استهلاكية غير منتجة.
2ـ الاستقرار الاقتصادي:
أي الوصول إلى حجم الإنتاج الأمثل الذي يؤدي إلى التشغيل الكامل في الدولة، وهذا يعني
أنه يتعين على الدولة (الحكومة) أن توازن بين نشاط القطاعين الخاص والعام للوصول إلى
أقصى إنتاج ممكن، فكلما كانت المشروعات الخاصة أقدر على الإنتاج من المشروعات العامة
وجب على الحكومة أن تمتنع عن التدخل المباشر وأن يقتصر نشاطها على التوجيه بواسطة الإعانات
والضرائب إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وينبغي ألا تقل المنافع التي يحصل عليها المجتمع
من الإنفاق الحكومي عن تلك التي يمكن الحصول عليها لو ظلت الموارد في أيدي الأفراد.
ويتحقق التوازن بين القطاعين العام والخاص عندما يصل مجموع المنافع الناجمة عن المنشآت
الخاصة والنفقات معاً إلى أقصى حد مستطاع، أي عندما يصل الدخل القومي إلى أقصى حد ممكن،
أي يتحقق هذا الاستقرار عندما يتبين أن المنافع الحدية الناتجة من النشاط الاقتصادي
للحكومة يتعادل مع المنافع الحدية التي تقتطعها الحكومة بتحصيل إيراداتها من الأفراد،
فالاستقرار هنا يعني استغلال موارد المجتمع على أفضل وجه للوصول إلى حجم الإنتاج الأمثل.
3ـ الاستقرار الاجتماعي:
أي أن يصل المجتمع إلى أعلى مستوى ممكن من الرفاهية للأفراد في حدود الإمكانات المتاحة
في المجتمع وما تقتضيه عملية تحقيق العدالة الاجتماعية، وبالتالي يجب على السياسة المالية
ألا تسعى إلى زيادة حجم الإنتاج الكلي للمجتمع على حساب تحقيق العدالة الاجتماعية،
إذ يجب على السياسة المالية أن تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية أيضاً، أي أن تعمل
على تحقيق التوازن في توزيع المنتجات على الأفراد عن طريق هذه السياسة وإعادة توزيع
الدخل بين الأفراد توزيعاً أقرب إلى العدالة، أي أن تعمل على توزيعها لمصلحة الفقراء
وليس لمصلحة الأغنياء.
4ـ الاستقرار العام:
أي تحقيق التوازن بين مجموع الإنفاق القومي (نفقات الأفراد للاستهلاك والاستثمار)،
إضافة إلى النفقات العامة (الحكومة) وبين مجموع الناتج القومي بالأسعار الثابتة في
مستوى يسمح بتشغيل جميع عناصر الإنتاج المتاحة. والأدوات المالية التي يمكن أن تستخدمها
الدولة في هذا المجال كثيرة ومتنوعة، أهمها القروض العامة والضرائب والرسوم والإعفاءات
والمشاركة مع الأفراد في قيام المشروعات.
يجب أن يلاحظ أنه قد يقوم هنالك تعارض بين تلك الأهداف،
وربما لا يمكن تجنب ذلك، فالهدف الأول للسياسة المالية هو عدم قيام هذا التعارض بين
أهدافها، وإن حدث هذا التعارض فمن المفروض أن تهدف السياسة المالية إلى تحقيق الاستقرار
العام أولاً، ومن ثم تسعى إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، ثم الاستقرار الاجتماعي شرط
ألا يخل ذلك بالوصول إلى حجم الإنتاج الأمثل، وأخيراً تعمل على تحقيق الاستقرار المالي
على المدى القصير ولكنه يجب ألا يكون تحقيق الأهداف السابقة على حساب تحقيق الاستقرار
المالي على المدى الطويل.
خامساً ـ أدوات السياسة المالية:
تمتلك السياسة المالية مجموعة من الأدوات المالية
لتحقيق أهدافها، لعل أهمها:
1ـ الضرائب والرسوم:
فالضرائب والرسوم عادة تعد أهم الإيرادات المالية التي يمكن أن تستخدمها الدولة وسيلة
مالية للتأثير في الحياة الاقتصادية للبلاد؛ فيمكن للدولة زيادة الضرائب في بعض القطاعات
التي لا ترغب في زيادتها وتخفيضها في القطاعات التي ترغب الدولة في تنشيطها، أو القطاعات
المتعثرة التي ترغب الدولة في زيادة حجمها، أو في القطاعات التي لا يرغب القطاع الخاص
بالقيام بها، كالإعفاء الضريبي أو تخفيض معدل الضرائب على بعض القطاعات التي ترغب الدول
في زيادة حجم الاستثمار فيها، كما يمكن للدولة أن تستخدم الضرائب لتحقيق العدالة الاجتماعية
وذلك بتخفيض معدل الضرائب غير المباشرة وزيادة معدل الضرائب المباشرة التي يمكن أن
تنال الدخول المرتفعة، وفي كل مرحلة أو حالة اقتصادية يمكن للدولة زيادة الضرائب أو
تخفيضها استناداً إلى الهدف الذي تسعى للوصول إليه.
2ـ القروض العامة:
فالقروض العامة تأتي بعد الضرائب والرسوم من حيث الأهمية ضمن إيراداتها المالية التي
يمكن أن تستخدمها الدولة للتأثير في الحياة الاقتصادية للبلاد، فقد أصبحت وسيلة عادية
يمكن أن تلجأ إليها الدولة حديثاً من أجل معالجة حالة العجز المالي التي غالباً ما
تعاني منه الدول في موازناتها العامة، فقد تلجأ الدول إلى القروض العامة من أجل تمويل
المشاريع الاستثمارية التي لا يمكن أن توفرها الاعتمادات المتاحة، وذلك من أجل زيادة
حجم الناتج القومي (النمو الاقتصادي) على المدى الطويل، وقد تلجأ إليها الدول من أجل
تمويل الإنفاق الاستهلاكي على المدى القصير بقصد زيادة الطلب الكلي من أجل تحقيق الاستقرار
الاقتصادي.
3ـ الإعانات: وهي
مبالغ نقدية تخصصها الدولة عبر زيادة حجم نفقاتها العامة من أجل مساعدة المنتجين أو
القطاعات الإنتاجية التي تنخفض فيها معدلات الأرباح، كالإعانات الاقتصادية التي تقدمها
للصناعات الناشئة لزيادة قدرتها على المنافسة والإعانات التي تقدمها إلى المصدرين بهدف
زيادة حجم الصادرات الوطنية ورفع قدرتها التنافسية في السوق الدولية، والإعانات الاجتماعية
التي تقدمها الدولة من أجل تخفيض أسعار السلع الضرورية للأفراد محدودي الدخل.
4ـ الإنفاق العـام:
وهي إحدى الوسائل المالية المهمة التي يمكن من خلالها أن تزيد الدول من حجم الطلب الكلي
في الاقتصاد الوطني، فكلما زاد الإنفاق العام يزداد الطلب الكلي، وبالمقابل إذا خفَّضت
الدول من حجم الإنفاق العام ينخفض حجم الطلب الكلي. والدولة تستخدم عادة هذه الوسيلة
المالية للتأثير في حجم النشاط الاقتصادي بالزيادة أو النقصان بحسب الحالة القائمة
في الاقتصاد الوطني.
ـ عادة تعتمد الدول على النفقات العامة الاقتصادية
والاجتماعية للتأثير في حجم النشاط الاقتصادي بآن واحد في الدول الليبرالية والدول
الاشتراكية وإن كانت في الدول الأولى تعطي القطاع الخاص فرصة أكبر للتأثير في تفاصيل
هذه الحياة أكثر.
5ـ عجز الموازنة:
وهي سياسة مالية تستخدمها الدولة عادة لزيادة حجم الإنفاق العام وذلك من خلال زيادة
حجم المشاريع المخططة في الموازنة من أجل زيادة حجم النمو الاقتصادي على المدى الطويل،
علماً بأن المخططين يعلمون مسبقاً بأن الإيرادات المتاحة لا تستطيع تمويل هذه المشاريع؛
لذلك تعتمد الدول عادة من أجل تمويل هذا العجز إما على السياسة النقدية فتعمل على زيادة
الإصدار النقدي، وإما على القروض العامة فتعمل على زيادة حجم القروض الداخلية والخارجية
وذلك من أجل زيادة حجم الطلب الكلي، وعادة تعتمد الدول على هذه الوسيلة المالية في
حالة الانكماش الاقتصادي (الكساد)، أما الدول النامية فإنها تعتمد على هذه السياسة
دائماً نظراً لنقص مواردها المالية ولكن هذه السياسة قد تؤدي إلى مخاطر على المدى الطويل
لذلك على الدول أن تلجأ إلى هذه الوسيلة بحذر شديد كيلا تثقل كاهل اقتصادها بحجم مديونية
عالية ربما لا يستطيع اقتصادها أن يتحملها على المدى البعيد، كما حصل في لبنان الذي
وصلت ديونه الخارجية إلى 51 مليار دولار.
سادساً ـ السياسة المالية في حالات الركود:
تتمثل حالة الركود بانخفاض حجم الإنفاق الكلي الأمر
الذي يؤدي إلى نقص حجم الطلب الكلي في مواجهة العرض الكلي، مما يؤدي إلى الانخفاض في
المستوى العام للأسعار وتبدأ بعدها حركة البطالة في الازدياد، مما يولّد ضغوطاً مستمرة
لتخفيض الطلب الكلي باستمرار ويتعمق الركود تدريجياً حتى يصل إلى حالة الكساد الاقتصادي.
وتتمثل حالة الركود الاقتصادي بالمظاهر التالية:
1ـ انخفاض حجم الطلب
الكلي.
2ـ انخفاض حجم الاستثمار
الحكومي والخاص.
3ـ زيادة معدلات البطالة
التي تؤدي إلى تخفيض مستويات دخول العمل.
4ـ انخفاض المستوى
العام للأسعار.
5ـ زيادة توظيف الأموال
في المصارف بدل توظيفها في العمليات الإنتاجية.
6ـ هجرة الاستثمارات
إلى الخارج.
إن هذه المؤشرات العامة تتطلب سياسة مالية معاكسة
لإيقاف تعمق حالة الركود والبدء بحركة توسعية، وهذا يتطلب القيام بالإجراءات المالية
التالية:
1ـ زيادة حجم الإنفاق
العام الاستهلاكي والاستثماري.
2ـ تشجيع الاستثمار
الخاص عبر تخفيض معدلات الضرائب وزيادة إعفاءات وزيادة حجم الإعانات للمنتجين.
3ـ زيادة حجم الإعانات
التصديرية.
4ـ زيادة حجم القروض
العامة.
5ـ تخفيض معدلات الفائدة
لزيادة الطلب على الاقتراض من أجل زيادة حجم استثمارات القطاع الخاص (سياسة نقدية تدعم
السياسة المالية).
إن هذه الإجراءات تسهم مباشرة في تخفيض حجم الضغوط
الركودية وتدفع الاقتصاد تدريجياً نحو الانطلاق.
سابعاً ـ السياسة المالية في حالات الرواج:
تتمثل حالات الرواج بزيادة الطلب الكلي في مواجهة
العرض الكلي، الأمر الذي يؤدي إلى تزايد حجم المبيعات وزيادة حجم الاستثمارات إلى أن
يصل الاقتصاد إلى مستوى التشغيل شبه الكامل. وبالتالي فإن أهم مظاهر الرواج الاقتصادي
هي:
1ـ الزيادة المستمرة
في حجم الاستثمارات لتلبية الطلب المتزايد.
2ـ تزايد حجم الاستهلاك
مقارنة بحجم الدخل لدى الأفراد.
3ـ تمويل الاستثمارات
عبر الاقتراض الداخلي (المصرفي) أو الخارجي.
4ـ تمويل الدولة للنفقات
العامة عبر الإصدار النقدي.
5ـ نقص نسبة البطالة.
6ـ زيادة حجم الاستثمارات
الخارجية.
7ـ ارتفاع المستوى
العام للأسعار وميل الاقتصاد لحالة التضخم.
إن هذه المظاهر العامة لحالات الرواج تترافق بسياسة
مالية تنتهجها الدولة بحسب الأهداف التي تنوي الوصول إليها، وعادة ما تفضل الدول الاستمرار
في حالة الرواج من أجل المحافظة على نسبة النمو الاقتصادي المطلوبة، وبالتالي فإن السياسة
المالية المفضل استخدامها هنا يجب أن تعتمد على الأسس التالية:
1ـ تمويل الإنفاق
العام عن طريق الضرائب وسندات الدين العام.
2ـ زيادة معدلات الضرائب
لأن المستثمرين لا يشعرون بعبئها.
3ـ تسديد القروض العامة
التي لجأت إليها الدول سابقاً.
4ـ تخفيض حجم الإعانات
الإنتاجية إلى أقل حد ممكن.
إن الوصول لحالة التشغيل شبه الكامل (زيادة الطلب)
سوف يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، لذلك يجب على الدول في هذه الحالة أن تخفض من حجم الإنفاق
الحكومي حيث يؤدي ذلك إلى تخفيض حجم الطلب الكلي الذي يؤدي بدوره إلى تخفيض الضغوط
التضخيمية التي يعانيها الاقتصاد والعودة به إلى حالة الاستقرار، إضافة إلى زيادة الضرائب
على الشركات والأفراد التي سوف تؤدي إلى تناقص حجم الاستثمارات والاستهلاك الذي يؤدي
بدوره إلى نقص الطلب الكلي.
إن زيادة الضرائب وتخفيض الإنفاق العام يحققان معاً
فائضاً في الموازنة العامة يسمح للدولة بتكوين الاحتياطات اللازمة لمواجهة حالات العجز
التي يمكن أن تقع في المستقبل أو يسمح لها بتسديد الديون المستحقة عليها، وبالتالي
تخفيض عبء الديون عن كاهل اقتصادها في تلك الفترة.
ثامناً ـ مفهوم متانة السياسة المالية:
لا يمكن أن تكون السياسة المالية متينة وقوية إذا
كان هنالك فرق بين الإيرادات العامة والنفقات العامة بحيث تؤدي إلى زيادة نسبة الدين
العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، فإن ذلك سوف يؤدي إلى ظهور التضخم الذي لا يمكن
معالجته إلا بزيادة الضرائب والعبء الضريبي وتخفيض الإنفاق العام الذي يؤدي بدوره إلى
ظهور الكساد. فإدارة الدين العام وضبط نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي هو الذي يجعل
السياسة المالية متينة ويجنبها الوقوع في مخاطر الكساد أو العجز المالي غير المحسوب
وابتعادها عن تحقيق التوازن الاقتصادي على المدى البعيد، فإدارة الدين العام هي التي
تحقق الانضباط المالي، وهنا تتداخل السياسة النقدية مع السياسة المالية في تحقيق ذلك،
وعدم الانضباط يؤدي إلى انهيار أهداف السياسة المالية، ولا يمكن تحقيق هذا الانضباط
إلا من خلال ثبات نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي أو تخفيضها بحسب الحال،
ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا من خلال تحقيق المعادلة التالية:
عجز الموازنة = نسبة الدين العام / الناتج المحلي
الإجمالي
وبهذا يمكن تحقيق استقرار نسبة الدين العام إلى
الناتج المحلي الإجمالي بحيث لا تزيد هذه النسبة على ما يقتضيه نمو هذا الناتج، ومتانة
السياسة المالية وقوتها تتوقف على الكفاءة في إدارة الدين العام عند مواجهة عجز الموازنة
العامة.
تاسعاً ـ مفهوم السياسة الضريبية:
إن أسس الفكر المالي وفق النظرية الاقتصادية التقليدية
التي حصرت أوجه الإنفاق العام وحددت نطاقه والتزمت مبدأ الحياد المالي في كل النشاطات
الاقتصادية للدولة، ومبدأ توازن الموازنة لم تستطع الصمود أمام عجز هذه الأسس عن ابتداع
الحلول المناسبة للمشاكل التي عصفت بالحياة الاقتصادية والأزمات الاقتصادية المتكررة
التي كادت أن تودي بالنظام الاقتصادي الرأسمالي برمته، مما مهد الطريق لإعادة النظر
في هذه الأسس، وتطوير النظرة إلى المالية العامة لتصبح سياسة تستخدم فيها الحكومة برامج
الإنفاق العام والإيرادات العامة، لتحدث آثاراً مرغوبة في كل من الدخل القومي والإنتاج
والعمالة، وتمنع عنها الآثار غير المرغوب فيها، مما مهد لظهور مفهوم السياسة الضريبية.
لقد أدت النظرية الكينزية الدور الرئيس في تغير
هذه الأسس، فانتقدت المبادئ التي قامت عليها النظرية الاقتصادية التقليدية، باعتبار
أن قانون ساي للأسواق اهتم بجانب العرض فقط دون جانب الطلب في تحديد حجم الإنتاج والدخل
ومستوى التوظيف، وإن هذا لا يكفي لإيجاد القوى التلقائية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي،
فأثبتت أن النظام الاقتصادي الكلاسيكي لا يملك القوى التلقائية بما يضمن تحقيق التوازن
المستقر عند مستوى التوظيف الكامل، ولا يحول دون حدوث الضغوط التضخمية أو ظهور البطالة
الإجبارية وانتشار الكساد، وذلك لوجود تعارض في بعض الأحيان بين مصلحة الفرد ومصلحة
المجتمع وبالتالي عدم صحة مقولة اليد الخفية دائماً، وبناء على ذلك يمكن للدولة أن
تصحح هذا التعارض وتكون أكثر رشداً وكفاءة من القطاع الخاص لأنها دائماً تسعى إلى تحقيق
مصلحة المجتمع، لذلك يقع على عاتقها واجب التدخل في النشاط الاقتصادي لمنع حدوث الأزمات
الاقتصادية ومعالجتها عند حدوثها، وذلك لضمان الاستقرار الاقتصادي، ولتحقيق هذا الهدف
سُمِح للموازنة العامة للدولة بالتقلب، لتتصدى لآثار الدورات الاقتصادية، وذلك بواسطة
النفقات العامة والضرائب والتمويل بالعجز، وبذلك نشأت النظرية الاقتصادية الكينزية
التي تدعو إلى تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية لحماية مستوى النشاط الاقتصادي والدخل
القومي، لعدم تعريض الاقتصاديات المتقدمة إلى الأزمات الاقتصادية التي يمكن أن تؤدي
إلى التضخم أو الكساد، وبالتالي إلى ارتفاع الأسعار أو أزمات بطالة حادة يدفع ثمنها
ملايين العاطلين، فتوسع دور الدولة وتحولت من دولة حارسة إلى دولة راعية لضمان تحقيق
هذا الاستقرار في الحياة الاقتصادية من دون تضخم أو كساد مما جعلها تدعو إلى تحقيق
معدلات مناسبة في النمو الاقتصادي من أجل ذلك، منذ ذلك التاريخ أصبحت تستخدم الضرائب
للتأثير في القرارات الاقتصادية للأفراد، لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية تحددها الدولة،
وتجاوزت دورها المالي وأخذت الحكومات تتعمد استخدام ضرائب دون غيرها لإحداث آثار اقتصادية
واجتماعية للتأثير في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للدولة، فتم ظهور مفهوم السياسة
الضريبية في الأدب الاقتصادي، وأخذت مكانها أداة من أدوات السياسة المالية للدولة.
ووفقاً للنظرية الاقتصادية الكينزية أصبحت الأنظمة الضريبية هي الأداة السياسة الضريبية
الحكومية الرئيسية تتعمد من خلالها الحكومات استخدام الضرائب للتأثير في الحالة الاقتصادية
للبلاد، ولكن ذلك لا يعني أن الضرائب لم تكن تحدث آثاراً اقتصادية واجتماعية قبل ذلك
التطور، بل كانت هنالك تعريفات جمركية تفرض لحماية الصناعة الوطنية، ولكن نطاقها وحالاتها
وتعمد استخدامها كان محصوراً جداً، وكان التقليديون ينادون بتجنب تلك الآثار الاقتصادية
والاجتماعية للمحافظة على الحيادية الاقتصادية للضرائب عبر تصميم أنظمة ضريبية محايدة،
لإعطاء المبادرة الفردية أوسع مدى، فلم يكن مقبولاً لديهم فرض ضرائب على رأس المال
كيلا تؤثر سلباً في تلك المبادرة. لكن وبتأثير من النظرية الكينزية، ونتيجة لإدراك
علماء المالية ما للضرائب من آثار بعيدة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بدأ الفن
الضريبي يتطور، فظهرت الضرائب المتعددة، ونشأ مبدأ تصاعد المعدلات الضريبية، ولاحت
في الأفق صور التمييز في المعاملة الضريبية، والحوافز الضريبية من إعفاءات وخصومات،
بقصد تحقيق أغراض اقتصادية واجتماعية معينة، وأصبح من المسلم به أن الضرائب تؤثر في
الاقتصاد، من عمليات الإنتاج حتى التوزيع على نحو مباشر وغير مباشر، وتبلور مفهوم السياسة
الضريبية، وأصبح للضريبة الدور الأساسي للتأثير في سلوك الأفراد في الاستهلاك والادخار
والاستثمار وحجزت لنفسها دوراً في التأثير في العلاقات بين الدول.
وعلى ضوء ذلك يمكن تعريف السياسة الضريبية بأنها
"مجموعة متكاملة من الأساليب في استخدام الفن الضريبي للإسهام في تحقيق أهداف
معينة في كافة المجالات".
عاشراً ـ خصائص السياسة الضريبية:
يستخلص من التعريف السابق أن السياسة الضريبية تتسم
بالخصائص التالية:
1ـ السياسة الضريبية
هي أحد مكونات السياسة المالية التي بدورها تعد أحد مكونات السياسة الاقتصادية للدولة،
وبالتالي يجب على السياسة الضريبية أن تتفق أهدافها مع أهداف السياسة المالية، وتعملان
معاً في انسجام تام مع باقي فروع السياسة الاقتصادية. فإذا كانت السياسة المالية تهدف
إلى الحد من التضخم فيجب أن تتعاون السياستان الإنفاقية والضريبية لتحقيق هذا الهدف
وذلك بزيادة العبء الضريبي عن طريق رفع أسعار الضرائب القائمة أو توسيع أوعيتها أو
فرض ضرائب جديدة في الوقت نفسه تعمل على ضغط نفقاتها العامة، وإذا أرادت الدولة معالجة
أزمة المديونية المتفاقمة يمكن أن تتعاون كل فروع السياسة المالية في ذلك، فلا بد للضرائب
في هذه الحالة من أن تعمل على تشجيع العملية الاستثمارية، بتخفيض الرسوم الجمركية على
مستلزمات العملية الإنتاجية من آلات ومواد أولية، وإعطاء الحوافز الضريبية اللازمة
لتشجيع الصناعة، بتخفيض تكلفتها وتشجيع تصدير مخرجاتها بإعفائها من الضرائب عند التصدير،
وضغط النفقات العامة والعمل على استبدال ديون مرتفعة الفوائد وطويلة الأجل بديون منخفضة
الفوائد وقصيرة الأجل؛ للتخفيف من وطأة خدمة الدين العام على المدى القصير على الناتج
المحلي الإجمالي، فقد يستلزم تحقيق هدف اقتصادي استخدام فروع السياسة المالية مجتمعة
وقد يكفي استخدام أحد هذه الفروع لتحقيق هدف آخر، وقد يستلزم استخدام أحد فروع السياسة
المالية مع إحدى أدوات السياسة النقدية لتحقيق هدف آخر كسياسة سعر الفائدة والإعفاءات
الضريبية للتحريض على الاستثمار. ولكن عند استخدام أكثر من أداة لتحقيق هدف معين لابد
من أن تعمل هذه الأدوات في الاتجاه نفسه، فإذا كان هدف السياسة الضريبية هو ضبط الاستهلاك
القومي يجب إلا تؤدي سياسة الإنفاق العام إلى التوسع في حجم الإنفاق المخصص للاستهلاك
العام.
2ـ السياسة الضريبية
ينظر إليها على أنها مجموعة متكاملة من البرامج وليست مجموعة متناثرة من الإجراءات،
فإذا كان الترابط والتناسق بين مكونات السياسة المالية شرطاً جوهرياً لنجاح سياسة اقتصادية
معينة فمن باب أولى أن تصمم مكونات السياسة الضريبية في ضوء علاقات التناسق والترابط
بين أجزائها، حيث لا ينظر إلى كل مكون على حدة، بل ينظر إليه على أنه جزء من مكونات
السياسة الضريبية على نحو خاص والسياسة المالية على نحو عام، له وظيفة محددة. وتصميم
مكونات السياسة الضريبية بعيداً عن علاقات التكامل والتناسق سوف يؤدي إلى تعارض في
الأهداف وقد يصل هذا التعارض إلى وسائل تحقيق هذه الأهداف، مما يؤثر سلباً في فاعلية
السياسة الضريبية في تحقيقها. فتحقيق هدف حماية الصناعات المحلية الناشئة من خلال معدلات
الضرائب الجمركية على المنتجات المستوردة المماثلة قد يعارض أسلوب تحقيق هدف ضبط الاستهلاك
إذا تم عبر المنتجات المحلية التي تمت حمايتها، فلا بد من التوافق في تصميم نظام الضرائب
الجمركية بوصفه مكوناً من مكونات السياسة الضريبية مع تصميم نظام ضرائب الاستهلاك لتنجح
السياسة الضريبية في تحقيق الهدفين معاً، وذلك لكي تضمن ألاّ يلغي أي مكون لها الآثار
المرغوبة في المكوّن الآخر.
3ـ السياسة الضريبية
تمتد لتشمل الإيرادات الضريبية الفعلية والمستقبلية والبرامج المتكاملة المرتبطة بها،
فتشمل الحوافز الضريبية التي تمنحها الدولة لنشاطات اقتصادية معينة ترغب في تشجيعها؛
لأن هذه الحوافز الضريبية يمكن أن تعد إيرادات ضريبية محتملة مضحى بها على المدى القصير
من المحتمل تعويضها على المدى الطويل، فتشجيع الاستثمار عبر الحوافز الضريبية ـ خاصة
عند وجود موارد اقتصادية معطلة كما في البلاد النامية ـ يؤدي إلى زيادة الدخل القومي،
ويرفع من معدل النمو الاقتصادي الذي يؤدي بدوره إلى زيادة الإيرادات الضريبية في المستقبل
وعلى المدى الطويل.
4ـ يجب أن توازن أي
سياسة ضريبية بين العدالة والفعالية والبساطة، ويجب أن تأخذ بتلك المبادئ عند تكوين
أنظمتها، وعلى الإدارات الضريبية أن توازن في هذا السياق بين حقوق المكلفين والتزاماتهم،
وبين حقوقها والتزاماتها تجاههم، وأي إصلاح ضريبي يجب أن يوازن بين هذه الأهداف المتعارضة،
وتقويم نجاح ذلك الإصلاح يتوقف على نجاحه في ذلك. فالسياسة الضريبية تتألف من ثلاثة
عناصر، يمثل الأول أهدافها والثاني بيئتها والثالث مجموعة التشريعات الضريبية التي
تشكل الهيكل الضريبي للدولة، والتي يمثل أداتها في تحويل أهدافها إلى واقع ملموس عبر
البيئة التي تُنفذ فيها. فهذه العناصر الثلاثة تشكل وحدة متكاملة لا تنفصل، فأهداف
السياسة الضريبية هي أهداف فرعية، تنبثق من الأهداف العامة للمجتمع، وتسهم في تحقيقها
ولكن هذه الأهداف لا تأتي من فراغ، بل تحددها الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
والمالية للمجتمع، أما أداة تحقيقها فهو النظام الضريبي الذي له معنيان: أحدهما ضيق
يتمثل في مجموعة القواعد القانونية والتنظيمية والفنية التي تُمكّن الإدارات الضريبية
من الاستقطاع الضريبي في مراحل متتالية من التشريع إلى الربط فالتحصيل، والثاني واسع
يتمثل في كل العناصر الإيديولوجية والاقتصادية والفنية التي يؤدي تراكبها وتفاعلها
بعضها مع بعض إلى وجود كيان ضريبي معين، وبهذا المعنى يصبح النظام الضريبي الترجمة
العملية للسياسة الضريبية. وبناءً على ذلك فإن وحدة عناصر السياسة الضريبية تظهر من
خلال المفهوم الواسع للنظام الضريبي، والمكون من مجموعة محددة ومختارة من الصور الفنية
للضرائب، لتلائم الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتعدّ في مجموعها الهيكل الضريبي
للمجتمع المحدد بوساطة القوانين والتشريعات الضريبية، واللوائح التنفيذية والتفسيرية
من أجل تنفيذ أهداف السياسة الضريبية، بمعنى آخر فإنه يمكن أن تكون أهداف السياسة الضريبية
واحدة ولكن تنفيذها يتم عبر أنظمة ضريبية متباينة لتلائم الواقع، فالسياسة الضريبية
تمثل الإطار العام الذي يعمل ضمنه النظام الضريبي.
يُستنتج من ذلك أن إخفاق السياسة الضريبية في تحقيقها
لأهدافها يمكن أن يعود إلى أحد العوامل التالية:
أ ـ عدم تحديد الهدف الذي يناسب الواقع.
ب ـ عدم تحديد الأداة الضريبية المناسبة لتحقيق
هدف معين.
ج ـ طبيعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
المركبة التي تعمل السياسة الضريبية على التأثير فيها لإحداث التغيير الذي يمثل هدفها.
فما تحدثه الضرائب من تأثير في مظاهر الحياة الاقتصادية في صورة تغيرات اقتصادية، منها
ما يكون مقصوداً وهدفها في آن واحد، ومنها ما يكون غير مقصود نتيجة قصور في الكيان
الضريبي، نتيجة عدم تحليل هذا الواقع تحليلاً دقيقاً، وعدم فهم المشاكل المركبة التي
يعانيها، وبالتالي عدم تحديد الهدف والوسيلة المناسبين، أو يعود لطبيعة هذه الأوضاع
وتعقدها وخاصة في الدول النامية التي تعاني مجموعةً من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية
التي يصعب إيجاد الوسيلة الضريبية التي تعمل على حل هذه المشاكل المترابطة رغم الاتفاق
على الهدف.
المسألة في السياسة الضريبية هي مسألة اختيار أفضل
الوسائل الضريبية لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها مجتمع ما، وهو ما
يسمى بالنظام الضريبي الأمثل الذي تختلف مكوناته من مجتمع لآخر، لذلك فالسياسة الضريبية
في البلدان النامية غالباً ما توصف بأنها فن استخدام الممكن أكثر منها السعي وراء الأمثل.
حادي عشر ـ أهداف السياسة الضريبية:
إن السلطة السياسية لم تكن إلا لضرورة اجتماعية
من أجل تحقيق الأهداف العامة للمجتمع، ولكن ذلك لا يعني أن أهداف المجتمعات متماثلة
وإن كان هنالك أهدافٌ عامة يجب على كل سلطة سياسية تحقيقها؛ لأنها سبب وجودها، هذه
الحقيقة هي التي أجبرت الدولة على التدخل في النشاط الاقتصادي، وأضحى ذلك من الأمور
الضرورية لأي مجتمع، بغض النظر عن طبيعة نظامه الاقتصادي والسياسي، وذلك لتحقيق مجموعة
من الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعدّ في مجموعها السياسة العامة
للدولة. وعلى اعتبار أن السياسة الاقتصادية للدولة هي جزء من سياستها العامة، وتسعى
من خلالها إلى تحقيق أهدافها الاقتصادية، ولما كانت السياسة الضريبية هي إحدى أدواتها
فهي تسعى بدورها إلى تحقيق هذه الأهداف وأهمها:
1ـ تحقيق النمو الاقتصادي
الفعال أو التنمية الاقتصادية.
2ـ تحقيق الاستقرار
الاقتصادي ما أمكن.
3ـ تحقيق العدالة
الاجتماعية بإعادتها توزيع الدخل والثروة بين أفراد المجتمع.
4ـ إشباع الحاجات
العامة التي يخفق جهاز الثمن في إشباعها جزئياً أو كلياً.
هناك إجماع بين علماء المالية العامة على أن الأهداف
التي ذكرت لا تختلف في طبيعتها العامة بين الدول إن اختلفت في الفلسفة الاقتصادية التي
تؤمن بها، أو اختلفت في درجة تقدمها الاقتصادي، وعلى ذلك فهي هدف أي سياسة ضريبية،
ولكن التمايز في السياسات الضريبية يكون باختلاف الأهمية النسبية لكل من هذه الأهداف
ضمن الدولة الواحدة من فترة لأخرى، واختلاف أهميتها النسبية بين الدول في الوقت نفسه،
إضافة إلى اختلاف أسلوب تحقيق تلك الأهداف باختلاف الفلسفة الاقتصادية التي تتبناها
الدولة بين تدخل مباشر وغير مباشر رغم الانحسار التدريجي للتدخل المباشر بانحسار النظم
الاشتراكية، وسيادة مفهوم اقتصاديات السوق.
1ـ أهداف السياسة
الضريبية في الدول المتقدمة:
تتميز البلدان المتقدمة بأنها تمتلك جهازاً إنتاجياً
ضخماً ومتنوعاً يكفي لاستغلال مواردها المتاحة وامتلاكها دخلاً قومياً ومتوسطاً مرتفعاً
لدخل الفرد فيها، واقتصاداً عريضاً يعتمد على كل القطاعات الاقتصادية، وعلى وجه الخصوص
على قطاع بلغ درجة عالية من التصنيع والتخصص الصناعي وثورة تكنولوجية ومعلوماتية ليس
لها حدود. والمشكلة الاقتصادية الرئيسة فيها هي ضمان استمرار التشغيل الكامل لهذا الجهاز
الإنتاجي الكبير، والعمل على استبعاد حالات الركود أو التضخم الاقتصادي، أو العمل على
معالجة حالة التضخم الركودي التي بدأت تظهر فيها منذ بداية السبعينات من القرن العشرين،
والهدف الأكثر أهمية فيها هو ضمان الاستقرار الاقتصادي والنمو المتوازن، وهذا يستتبع
إعادة توزيع الدخل القومي لمصلحة الطبقات الفقيرة، من أجل المحافظة على معدلات النمو
الاقتصادي العالي، فالضرورات الاقتصادية لإعادة توزيع الدخل طغت على مسوّغاتها السياسية
والاجتماعية، وذلك لكون هذه الطبقات ذات ميل مرتفع للاستهلاك، ورفع مستوى استهلاكها
يعد هدفاً مهماً لضمان تشغيل الجهاز الإنتاجي، وبالتالي العمل على النمو والاستقرار
الاقتصادي، ومرونة الجهاز الإنتاجي يكفل استغلال الموارد الاقتصادية فيها بكفاءة.
السياسة الضريبية تضمن ذلك عن طريق تأثيرها في القوة الشرائية للأفراد
وذلك برفع الدخول المخصصة للاستهلاك والادخار والاستثمار أو خفضها وفقاً لطبيعة المرحلة
التي يمر بها اقتصاد البلد، فالسياسة الضريبية تعمل من خلال مرونة الجهاز الإنتاجي
للدولة في التأثير في العرض والطلب الفعال للاقتصاد الكلي:
أ ـ في حالة الركود: تعمل على زيادة الطلب، بتشجيع
الاستهلاك والاستثمار بتخفيض الضرائب المفروضة على الدخول المخصصة للاستهلاك، وتخفيضها
على الأرباح الناجمة عن الاستثمار، لتشجيعه ومحاربة الاكتناز بزيادة الضرائب على الشركات
والأرباح غير الموزعة، وإعادة توزيع الدخل في هذه الحالة يكون لمصلحة الطبقات الفقيرة،
إلى أن يصل الطلب إلى مرحلة التشغيل الكامل للموارد الإنتاجية من دون أن يتجاوزه كيلا
يصل إلى مرحلة التضخم.
ب ـ في حالة التضخم: تعمل على كبح الطلب وزيادة
العرض الكلي، ليقابل زيادة الطلب الذي أدى إلى إيجاد حالة التضخم، فترفع الضرائب على
الدخول المخصصة للاستهلاك، وتخفض الضرائب على الاستثمارات الجديدة وخاصة الاستثمارات
الصناعية الاستهلاكية، حتى يعود التوازن بين الطلب والعرض وتخفض من الضرائب على الشركات
والأرباح غير الموزعة. وإعادة توزيع الدخل هنا تكون لمصلحة الطبقات الغنية، وذلك لكون
ميلها إلى الادخار أكبر من ميلها إلى الاستهلاك ولو كان ذلك على حساب العدالة الاجتماعية،
فزيادة الضرائب تسحب من يد المستهلكين القوة الشرائية الزائدة التي تسبب حالة التضخم.
ج ـ في حالة التضخم الركودي: يصبح تصميم سياسة ضريبية
ملائمة مسألة أصعب، فالمطلوب معالجة ظاهرتين اقتصاديتين. اتضح فيما سبق (البطالة ـ
ارتفاع الأسعار) أنهما متعارضتان وفق النظرية الكينزية، أي إن وجود إحداهما يمنع ظهور
الأخرى، ولكن البيانات والإحصاءات منذ السبعينات من القرن العشرين أبرزت حقيقة تلازم
هاتين الظاهرتين خلال الفترة نفسها، بدأت في الدول المتقدمة وانتقلت بحدّة أكبر إلى
الدول النامية، بحكم التبعية وعدم مرونة الاقتصاديات النامية أمام التغيرات الاقتصادية
الخارجية.
لذلك فإن الخطوط العريضة للسياسة الضريبية في مواجهة
التضخم الركودي لضمان الاستقرار الاقتصادي يجب أن تأخذ في الحسبان ما يلي:
أ ـ اختيار رقم مستهدف للبطالة لاستحالة الوصول
إلى معدل يساوي الصفر، ويجب أن يحدد هذا الرقم بتحليل المكاسب والتكاليف الاجتماعية
والاقتصادية لمعدلات البطالة والتضخم المختلفة لاختيار الأفضل.
ب ـ حساب الناتج القومي الممكن تحقيقه واللازم للحفاظ
على مستوى البطالة المستهدف.
ج ـ التنبؤ بالناتج القومي الفعلي عند غياب السياسة
الضريبية.
د ـ تحديد ماهية التغيرات الواجب إحداثها بواسطة
الضرائب لغلق الفجوة بين الناتج القومي الفعلي والممكن.
هـ ـ اختيار المزيج الملائم من الضرائب بما يسمح
بالتأثير الإيجابي في مكونات فجوة الناتج القومي.
رغم تعدد الأهداف الاقتصادية للمجتمع في البلدان
المتقدمة فإن هدف السياسة الضريبية الأكثر إلحاحاً فيها هو تحقيق النمو المتوازن، مع
المحافظة على حالة الاستقرار ومن ثم تعمل على تحقيق العدالة التوزيعية بالعمل على إعادة
توزيع الدخل لمصلحة الفقراء. وعند تعارض هذين الهدفين تسهم السياسة الإنفاقية في تحقيق
هذا الهدف، لذلك أصبحت النفقات العامة وخاصة التحويلية منها ونظام التأمنيات الاجتماعية
والإعانات الحكومية الخاصة أداة مهمة لإعادة التوزيع أهم من السياسة الضريبية في المجتمعات
المتقدمة أو ما يُعرف بالضريبة السلبية.
2ـ أهداف السياسة
الضريبية في الدول النامية:
البلدان النامية ليست على مستوى واحد في درجة التخلف
الاقتصادي للاختلاف الواسع في مواردها الاقتصادية المادية والبشرية وظروفها الاجتماعية
والسياسية، والاختلاف في الخطوات التي اتخذتها لمعالجة مشاكل التخلف التي تعانيها،
حتى أصبحت أكثر تمايزاً مما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها مازالت
تتفق في عدد من الخصائص العامة المشتركة فيما بينها من نواحٍ عدة:
فمن الناحية الاقتصادية مازالت تعاني انخفاضَ مستوى
التراكم الرأسمالي وانتشار البطالة، والتخلف الصناعي والتكنولوجي، مما زاد من تبعيتها
للخارج، وأهمية القطاع الأولي الزراعي والاستخراجي، والاختلال في هيكل التجارة الخارجية
مما زاد من عجز ميزان مدفوعاتها، إضافة إلى وجود موارد مادية وبشرية معطلة، لعدم توافر
مشروعات البنية الأساسية، وتراكم الديون الخارجية، وضيق الأسواق المحلية، والانخفاض
في المستوى الحقيقي للدخل القومي مع تباين كبير في الدخول الفردية، مما يؤدي إلى الانخفاض
في معدل الاستقطاع الضريبي وضعف الطاقة الضريبية، هذا فضلاً عن غياب المنافسة، أو المنافسة
الناقصة على الصعيد الوطني، نتيجة للاحتكارات المحلية للقطاع العام والخاص الذي دعم
بمستوى من الحماية الجمركية وغير الجمركية، مما حد إلى درجة كبيرة من المنافسة على
الصعيد الدولي قبل فرض التوجه نحو التحرر التجاري عليها في الآونة الأخيرة.
ومن الناحية الاجتماعية تعاني الكثير من المشاكل
لعل أهمها التزايد السكاني، ونقص التعليم والانخفاض في المستوى العام للمعيشة، مما
يؤدي إلى انخفاض في المستوى الصحي والخدمي، وتزايد لنسبة الأمية.
تلك المشاكل التي تعانيها الدول النامية تعد مظاهر
للتخلف، وهي متداخلة ومترابطة لابد من معالجتها وحدة متكاملة فهي عقبات في وجه النمو
الاقتصادي وتحقيق التنمية المطلوبة في هذه البلدان.
الهدف الاقتصادي للبلدان النامية هو تحقيق التنمية
الاقتصادية، ومشكلتها عدم توافر الموارد المحلية المالية والبشرية المؤهلة، وبما أن
تراكم رأس المال يعد من أهم محددات النمو فمن باب أولى أن يكون المحدد الأهم للتنمية
الاقتصادية، ومن هنا يكتسب هدف التكوين الرأسمالي (المادي ـ البشري) الأهمية القصوى
في السياسات الضريبية في البلدان النامية، فتحقيق التنمية هو الهدف الاستراتيجي لها،
ومفتاح تحقيقه تكوين أعلى معدل للتراكم الرأسمالي، وذلك لخلق الجهاز الإنتاجي اللازم
لاستغلال الموارد الاقتصادية بالكفاءة الحدية، وإحداث تغييرات هيكلية في اقتصاديات
هذه الدول.
تحتل السياسة الضريبية أهمية خاصة في تلك الدول
للدور الكبير الملقى على عاتقها في إحداث هذه التغييرات الشاملة في اقتصادياتها، ومعالجة
مشاكلها التي تقف عقبة كبيرة في تحقيق التنمية، لذلك على السياسة الضريبية القيام بـ:
أ ـ التغلب على الانخفاض في معدل التراكم الرأسمالي.
ب ـ سد فجوة التجارة الخارجية.
ج ـ التغلب على التفاوت الحاد في مستوى الدخل الفردي
والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي، وخصوصاً مع اتساع الفجوة الدخلية المرافقة لعمليات
التنمية، والأثر المتوقع للسياسات الاقتصادية الجديدة التي تبنتها المؤسسات الاقتصادية
الدولية.
الهدف الأول يعني تعبئة رأس المال المحلي وتوجيهه
نحو الاستثمارات المرغوب فيها ودعوة الاستثمار الخارجي عند عدم تغطية الفجوة الاستثمارية
اللازمة لرفع معدلات النمو نحو الاستثمارات التي تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة،
وزيادة مستوى الدخل القومي. والهدف الثاني يقتضي تشجيع التصدير لتفادي الاختلال في
الميزان التجاري وميزان المدفوعات، لتوفير العملة الأجنبية اللازمة لاستيراد المستلزمات
الرأسمالية للتنمية ريثما يعمل على تصنيعها محلياً، وزيادة الأهمية النسبية لهذه الأهداف
يجب ألا يكون على حساب الأهداف الأخرى، فلا يمكن للتنمية الاقتصادية أن تعطي ثمارها
على المستوى الاقتصادي الكلي، ولكي يستفيد منها كل أفراد المجتمع إلا في ظل حالة من
الاستقرار الاقتصادي، كما أن هدف إعادة توزيع الدخل القومي يكتسب أهمية خاصة بالدول
النامية، لما تعانيه من تفاوت كبير في توزيع الدخل فيها، يمكن أن يهدد الاستقرار الاجتماعي
والسياسي الذي يعد من الشروط الأساسية لتحقيق التنمية والاستقرار الاقتصادي.
ويُخلص إلى أن أهداف السياسة الضريبية في البلدان
النامية تهدف إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، وهذا يتطلب تعبئة رأس المال المحلي بالدرجة
الأولى، ثم الاعتماد على الاستثمارات الخارجية، وتحقيق العدالة الضريبية عن طريق توزيع
أعبائها وإعادة توزيع الدخل القومي عبرها لمصلحة محدودي الدخل. وهذا يتطلب منها تحقيق
الأهداف التالية:
أ ـ ضبط الاستهلاك غير الضروري.
ب ـ تعبئة الموارد المحلية بزيادة معدلات الادخار.
ج ـ توجيه المدخرات المحلية نحو الاستثمارات المرغوب
فيها.
د ـ تشجيع الاستثمارات الخارجية.
هـ ـ سد فجوة التجارة الخارجية.
و ـ تحقيق العدالة الضريبية.
ثاني عشر ـ محددات السياسة الضريبية:
إذا كانت الضرائب تؤثر في المتغيرات الاقتصادية
على المستوى الكلي والجزئي، والمتغيرات السياسية والاجتماعية فإن ذلك لا يعني أنها
تنشأ من فراغ، فالسياسة الضريبية تنشأ في ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية متباينة،
تعد بمنزلة محددات لها، تحدّد أهدافها وهيكلها وتنظيمها الفني. ولا بد عند تصميمها
من أخذ تلك الظروف في الحسبان كي تمتلك مقومات نجاحها. ولا يمكن تحليل أي سياسة ضريبية
إلا إذا تضمن هذا التحليل الإدراك الواسع للبيئة العامة التي تعمل ضمنها تلك السياسة.
1ـ أثر اختلاف النظم
الاقتصادية والسياسية في السياسية الضريبية:
تتأثر السياسة الضريبية بالفلسفة الاقتصادية التي
يقوم عليها النظام السياسي، كما تتأثر في شكل النظام السياسي القائم، وذلك وفقاً لما
يلي:
أ ـ أثر اختلاف النظم الاقتصادية في السياسة الضريبية:
مع أن هنالك في الوقت الحاضر نظامين اقتصاديين في
العالم، هما النظام الرأسمالي والاشتراكي، وإن توسع الأول على حساب الثاني بعد انهيار
الاتحاد السوڤييتي السابق، وتحول دول أوربا الشرقية لاقتصاديات السوق مازالت بعض الدول
تتبنى الفلسفة الاشتراكية منهجاً لها كالصين مثلاً، وبين هذين النظامين هناك نظم مختلفة،
تجمع بين سمات النظامين، وإن انحازت معظمها نحو النظام الرأسمالي بإرادتها تارة، وبتأثير
المؤسسات الاقتصادية الدولية تارة أخرى.
(1) أثر النظام الرأسمالي
في السياسة الضريبية:
إن النظام الرأسمالي يستند إلى أسس تنظيمية في إدارة
النشاط الاقتصادي، يعتمد بموجبها على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وإدارة النشاط
وفقاً لقوى السوق، وإن محرّك هذا النشاط هو تحقيق أقصى قدر ممكن من الربح، ويتحدد دور
الضرائب في هذا النظام في عدم الإضرار بالمبادرة الفردية للأفراد، والمحافظة على أقصى
قدر من الادخار والاستثمار لديهم، أي المحافظة على قدرة الأفراد على القيام بالتراكم
الرأسمالي اللازم للإنتاج والاستثمار.
بناءً على ذلك يتبين أن السياسة الضريبية في المراحل
الأولى لتشكيل النظام الرأسمالي اهتمت بالدور التمويلي للضريبة، وفي المرحلة المتقدمة
من الرأسمالية تحدّد دور الضريبة في ضمان التشغيل الكامل لهذا الجهاز باستمرار من دون
أن يهدم الأركان الأساسية له، وذلك بالتركيز على دعم القوة الشرائية اللازمة لخلق الطلب
الفعلي الذي يضمن التشغيل الكامل لعناصر الإنتاج، من دون أن تصل لمرحلة التضخم، وتحولت
الضريبة إلى أداة اقتصادية واجتماعية وسياسية، إضافة إلى كونها أداة تمويلية واهتمت
بالحد من التفاوت في توزيع الدخل والثروة.
(2) أثر النظام الاشتراكي
في السياسة الضريبية:
إن النظام الاشتراكي يستند إلى أسس تنظيمية في إدارة
النشاط الاقتصادي تعتمد على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، فالدولة تملك الجزء الأكبر
من وسائل الإنتاج في المجتمع، وأثمان السلع والخدمات ودخول الأفراد وقرارات الاستهلاك
والادخار والاستثمار تتم وفق خطة شاملة تضعها الدولة، لذلك دور الضريبة في تحقيق الأهداف
الاقتصادية والاجتماعية ينخفض إلى أدنى مستوى لها، فالدولة تستطيع مباشرة تحديد ماذا
تنتج؟ وكيف تنتج؟ وكيف تضمن استمرار النمو الاقتصادي من دون الحاجة إلى التدخل غير
المباشر عبر السياسات الضريبية كما في المجتمعات الرأسمالية، فالهدف الأكثر أهمية للنظام
الضريبي الاشتراكي كان يتجه لضمان تمويل الاستثمارات العامة والخدمات العامة الواسعة
النطاق، وبذلك انحصر دور الضريبة في تلك الأنظمة في أضيق الحدود.
ب ـ أثر النظام السياسي في السياسة الضريبية:
من خلال دراسة التاريخ الاقتصادي والسياسي لمعظم
الدول يتضح أن النظام الضريبي يتأثر بالنظم السياسية، فهو ينشأ بقرارات سياسية، ولا
بد لفهم أي سياسة ضريبية من معرفة شكل الحكومات والمجالس التشريعية التي صممت من خلالها
الضرائب. فالنظم السياسية تؤثر في مكونات النظام الضريبي وفي الأهمية النسبية لكل مكون
داخله، فهي تؤثر في أهداف السياسة الضريبية التي تسعى إلى تحقيقها ويظهر أثر ذلك في
الهيكل الضريبي والصور الفنية التي يتضمنها النظام الضريبي، وتعد محددات تقيدها في
تحقيق أهدافها.
2ـ أثر البنيان الاقتصادي
في النظام الضريبي:
يؤثر الواقع الاقتصادي في المجتمع في النظام الضريبي
وفي الأهمية النسبية لمختلف مكوناته، إن العامل الجوهري والمؤثر في السياسة الضريبية
في كل المجتمعات المتقدمة والنامية هو ما يترتب على طبيعة الجهاز الإنتاجي من حيث درجة
تقدمه أو جموده أو من حيث الآثار الناجمة عن ذلك. فالبلدان المتقدمة تكفل لها مرونة
جهازها الإنتاجي استغلال مواردها، مما يحقق لها دخلاً قومياً مرتفعاً، والمشكلة الاقتصادية
فيها هي ضمان استمرار ذلك مع الاستقرار الاقتصادي، أما في الدول النامية فالمشكلة الاقتصادية
هي تكوين هذا الجهاز بالمرونة نفسها للعمل على استغلال الموارد الاقتصادية بكفاءة،
لرفع الدخل القومي ومتوسط الدخل الفردي، لذلك فالواقع الاقتصادي في كل من الدول المتقدمة
والنامية، ودرجة التقدم الاقتصادي ومستوى التنمية فيها له أثر واضح في البناء الضريبي.
3ـ أثر المتغيرات
الاقتصادية في السياسة الضريبية:
التغيرات التي تحدث في المجتمع تؤثر في السياسة
الضريبة، ولكن درجة هذا التأثير ونوعيته مقيدة بالفلسفة الاقتصادية التي يتبناها النظام،
وبمستوى التقدم الاقتصادي الذي وصل إليه، فالمجتمعات الرأسمالية أكثر عرضة للتغيرات
الاقتصادية؛ لاعتمادها على جهاز الثمن وقوى السوق، لذلك فإن للسياسة الضريبية دوراً
أكبر فيها للتأثير في هذه المتغيرات من المجتمعات الاشتراكية. أما الدول النامية فهي
تتأثر بشدة بالتغيرات الاقتصادية التي تحدث في الدول المتقدمة بسبب التبعية الاقتصادية
لها، والتركز وعدم التنوع الاقتصادي في تجارتها مع غيرها.
كلما كانت الدول أكثر عرضة للتغيرات الاقتصادية
يجب أن تختار الضرائب ذات الأوعية الأقل تأثراً بها، وبما أن الضرائب على المعاملات
هي الأكثر تأثراً بتلك المتغيرات، والضرائب على انتقال رؤوس الأموال الثابتة الأقل
تأثراً، والضرائب على اكتساب الدخل متوسطة التأثر، فيمكن القول إن الضرائب المباشرة
عموماً تتأثر بدرجة أقل من الضرائب غير المباشرة؛ ولهذا فالنظم الضريبية في الدول المتقدمة
تعتمد على الضرائب غير المباشرة بدرجة أقل من اعتمادها على الضرائب المباشرة.
يتضح مما سبق أن رسم سياسة ضريبية ناجحة ليست مسألة
فن ضريبي، بقدر ما هي أمر تتدخل فيه عوامل كثيرة، فإنّ الأمر يتعلق بتخطيط شامل يراعي
الفلسفة الاقتصادية للدولة، وطبيعة المجتمع من الناحية الاجتماعية والسياسية، وبنيته
الاقتصادية، ودراسة ذلك عملية في غاية الأهمية، وخاصة في الدول النامية، لتحديد أهدافها
التنموية، ووسائل تحقيقها. فتحقيق التناسق بين السياسة الضريبية وأهداف التنمية أمر
يتطلب تحديد أدواتها المالية، على ضوء ذلك البنيان بهدف تعديله باتجاه تحقيق الأهداف
من دون أن يترتب على هذا التعديل تكاليف أو أزمات اجتماعية، والنظام الضريبي الأمثل
بالنسبة إليها يجب أن يعمل على تعبئة الإيرادات الحكومية الضرورية من دون الإفراط في
الاقتراض الحكومي ومن دون تثبيط للنشاط الاقتصادي، والابتعاد عن تقليد النظم الضريبية
الأخرى، والسياسة الضريبية في العالم الحديث هي أكثر تعقيداً من ذي قبل، حتى تستطيع
التواؤم مع الأنظمة الاقتصادية المطبقة في العالم، وهي مسألة اختيار عام على المستوى
المحلي، ولا يمكن تحليل أي سياسة ضريبية أو تقييمها بمعزل عن بيئتها العامة بما في
ذلك سياسة الإنفاق وتوزيع الإعانات.
ثالث عشر ـ السياسة المالية والضريبية في سورية:
للتعرّف إلى السياسات المالية في بلد ما لا بد من
التعرف إلى أدواتها التي تشكل مكونات الموازنة العامة ومدى تأثير هذه الأدوات في المتغيرات
الاقتصادية الكلية من خلال سياستها الضريبية والإنفاقية بما تحمله من إعانات وإضافة
إلى سياستها الائتمانية، فمن المعروف أن سورية دولة نامية تسعى منذ الاستقلال إلى تحقيق
التنمية الشاملة لذا يجب على سياستها المالية أن تسهم في تحقيق ذلك، فمنذ الاستقلال
حتى ثورة آذار/مارس اتسم اقتصادها بالطابع الرأسمالي المتخلف، وبعدها بدأ نهج التحول
الاشتراكي، فالتعددية الاقتصادية، فتشجيع الاستثمار، فسياسة التحديث والتطوير.
وعلى الرغم من كل هذه التحولات لم يحصل في السياسة
الضريبية أي تغيير في استخدام أدواتها، ويسجل لها زيادة في نسبة الضرائب المباشرة على
الضرائب غير المباشرة من مجموع الإيرادات الضريبية الكلية نتيجة لتخفيض تعريفاتها الجمركية،
ولكن يلاحظ عليها انخفاض العبء الضريبي نتيجة عدم تطوير قاعدة الفرض الضريبي فيهاوتوسيعها.
كما يلاحظ وجود خلل في مساهمة كل من القطاع العام والخاص في الإيرادات الضريبية، فإن
نسبة مساهمة القطاع الخاص في الإيرادات الضريبية لا يناسب حجم مساهمته في الناتج المحلي
الإجمالي، وعلى الرغم من كل الإصلاحات الضريبية الجارية سواء في ضريبة الدخل أم في
ضرائب الإنفاق مازال الجانب التمويلي هو المتحكم في ذلك، ولم يتم تفعيل الدور الاقتصادي
للضرائب فيها كما يجب.
وبالنسبة إلى السياسة الإنفاقية تتقرر السياسة المالية
تبعاً للحالة الاقتصادية السائدة، ولكن باعتبار سورية دولة نامية، فقد عانت عجزَ موازنةٍ
دائماً بدءاً من عام 1955 وازدادت هذه الحالة في الثمانيات من القرن الماضي، مما جعل
الحكومة تموّل العجز عن طريق الإصدار النقدي والقروض، ما أدى إلى التضخم ولضبط ذلك
شجعت الدولة الاستثمار الخاص مع بداية التسعينات وقلصت الإنفاق العام إلى أقل مدى مما
جعلها تدخل في حالة ركود ولم تخرج منها حتى نهاية /2002/، فمع بداية هذا القرن انعكست
سياسة الإصلاح والتحديث الاقتصادي واعتماد مبدأ اقتصاد السوق الاجتماعي على زيادة حجم
الإنفاق العام حيث زادت الموازنة التقديرية من عام /2000/ حتى /2010/ من 194 إلى
754 مليار ل.س، إلا أن هذه الزيادة لم يرافقها زيادة في الإيرادات بالنسبة ذاتها مما
فاقم مشكلة عجز الموازنة منذ عام /2005/ حتى اليوم، وعادت الحكومة ومولت ذلك من الإصدار
النقدي مما زاد بدوره من معدلات التضخم، ولم تصل إلى حالة التوازن أبداً على الرغم
من أخذها بهذا المبدأ من الناحية النظرية عند إقرار موازنتها، فلم تحقق ذلك أو تقترب
منه.
ـ ومن ذلك يمكن القول إنه لا يوجد سياسة مالية واضحة
المعالم تساعد على تحقيق الأهداف التنموية فيها، ففي ضوء نهج اقتصاد السوق الاجتماعي
وتشجيع المبادرات الفردية والأخذ بآليات السوق في ظل إرادة الدولة للعملية التنموية
والقيام بدورها في تحقيق العدالة الاجتماعية ودعم شبكات الأمان الاجتماعي لا بد من
إيجاد سياسة ضريبية واضحة وعادلة تؤمن وفرة الحصيلة من جهة بالأخذ بنظام الضريبة العامة
ومعالجة مشكلة التهرب والتراكم الضريبي، وسياسة إنفاقية تأخذ دورها في تحسين الطلب
الكلي وزيادة معدل النمو الاقتصادي والبطالة وتحسين الناتج المحلي الإجمالي من جهة
ثانية. وبذلك تكون السياسة المالية جزءاً من برنامج الإصلاح والتحديث الاقتصادي قادرة
على التحكم في عجز الموازنة لتسهم في زيادة الدخل القومي وإعادة توزيعها على مكونات
الاقتصاد الوطني، وبما يؤثر إيجاباً في التوازن الاقتصادي العام على المدى البعيد.