، ظاهرة اقتصادية أساسية في حياة الأفراد والمجتمعات, وهو فائض الدخل عن الاستهلاك, أي إِنه الفرق بين الدخل وما ينفق على سلع الاستهلاك والخدمات الاستهلاكية. لذلك يطلق بعضهم أيضاً على الادخار لفظ «الفائض» ويكمن الادخار في اقتطاع يستهدف تكوين احتياطي, علماً أن هذا الاحتياطي يمكنه أن يفيد بالتناوب للاستثمار أو لاستهلاك آجل. المنظور التاريخي تبلور مفهوم الادخار منذ بدء الفكر الاقتصادي المنظم بالعلاقة مع مفهوم الفائض الاقتصادي. فهو من الدلالات العميقة التي تكمن خلف اهتمام الفكر الاقتصادي للتجاريين «المركنتيليين» بميزان تجاري إِيجابي وزيادة الاحتياطي من الذهب والفضة بوصفهما الثروة الرئيسة المرغوب فيها. وقد أبرز التجاريون أهمية المعادن الثمينة لأنهم عاشوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر, إِذ سادت فيهما الحروب بين الدول وقل الإِنتاج وزاد الخوف من قلة الأغذية والمواد الأولية فكان تملك احتياطي ذهبي يعني تملك مزية الشراء نقداً إِضافة إِلى المزايا الاقتصادية والسياسية الأخرى. وهذا يعني أيضاً أن على الدولة أن تتدخل لتوجيه الاقتصاد الوطني. فالفكر الاقتصادي للتجاريين كان مرتبطاً بمرحلة البرجوازية النامية في حضن الإِقطاع, وكان على هذه البرجوازية آنذاك أن تدعم نفسها بقوة الدولة. ويعد الادخار كذلك من المعاني التي يوحي بها الفكر الفيزيوقراطي الخاص بإِنتاجية العمل الزراعي. فمن المعروف أن ما يميز الإِنتاجية لدى أصحاب هذا الفكر هو أن العمل الزراعي يوفر فائضاً في حين أن غيره من الأعمال لا يضمن ذلك. ويظهر مع التقليديّيْن الكبيرين سميث وريكاردو, وهما من أصحاب مذهب الحرية الاقتصادية, الاهتمام الواضح بالادخار واستخدامه المثمر. إِن سميث يقدم نموذجاً لزيادة الثروة والازدهار يقوم على قاعدة التراكم الرأسمالي. فكل ازدهار اقتصادي مشروط بتكوين رأسمالي سابق, ولكي يتحقق هذا التكوين لابد أن يسبقه الادخار. يقول سميث في كتاب «ثروة الأمم»: «إِن رأس المال يزداد بالادخار ويتناقص بالهدر وسوء الإِدارة... والصناعة التي غدت تحقق المزيد من الادخار, ماذا كان بإِمكانها أن تعطي من دون الادخار», وعلى هذا الأساس «فإِن زيادة الادخار تؤدي إِلى زيادة رأس المال الثابت, أي زيادة توسع الصناعات الحقيقية ثم زيادة كمية العمل المنتج المستخدم, مما يتيح تقسيماً أكبر للعمل الاجتماعي ورفعاً لمستوى الإِنتاجية مما يؤدي إِلى زيادة كمية الإِنتاج الإِجمالي وقيمته وذلك باتجاه تحقيق رفاهية السكان». ومشهور هجوم سميث على ما كان يعده تبديداً للفائض على يد الدولة الإِقطاعية, والملكية وانتقاده نفقات النبلاء وأثرياء التجار لأنهم يستخدمون الفائض الاقتصادي بطريقة غير منتجة. وكان لريكاردو الاهتمامات نفسها, فهو يعتقد أن من الضروري للتقدم الاقتصادي أن يزيد الإِنتاج إِلى أقصى حد ممكن, وأن يؤلف الجزء الأكبر من هذا الحد الأقصى فائضاً يمتلكه المنظَّم الذي يعيد استثماره. وهذا هو ما يجعل ريكاردو ينادي بأن تكون الأجور في أقل مستوى ممكن, وكذلك دخول الملاك العقاريين. ويُرى في مؤلفات الاقتصاديين التقليديين كلهم الاهتمام نفسه بتحديد الطبقات الاجتماعية التي يؤول إِليها الفائض الاقتصادي وكيف تستخدم ذلك الفائض, وبأثر هذا الاستخدام في الادخار والنمو الاقتصادي. كان الكتاب التقليديون لا يفرقون التفريق الكافي بين عملية الادخار وعملية الاستثمار, وكانوا يرون أن الأموال المدخرة لابد أن تتجه إِلى نواحي الاستثمار المختلفة بصورة تلقائية, وهو ما يسمى أحياناً بالاستثمار التلقائي. إِن هذا التحليل يلخصه الاقتصادي الفرنسي التقليدي ساي بقوله إِن العرض يولد الطلب ويعني ذلك أن الدخل لابد أن ينفق كله, إِما في الاستهلاك وإِما في الاستثمار, على أساس أن جميع الادخارات لابد أن تستثمر. وقد بدأ ماركس من تحليل الاقتصاديين التقليديين بعد وضع النظام الرأسمالي في إِطار التطور التاريخي, وأكد أن الشكل المحدَّد للفائض الاقتصادي وحجمه وأسلوب تملكه وطريقة استخدامه تُعبر كلها عن مرحلة معينة من تطور العمل وتطور إِنتاجيته. وعند صوغ هذه الملاحظة ألح ماركس على عرض الأشكال التاريخية المختلفة التي اتخذها الفائض الاقتصادي والدور الذي قامت به تلك الأشكال المختلفة في التاريخ, محدداً بذلك جوهر الادخار ومصادره الأساسية في الأنظمة الاجتماعية المختلفة. ويختفي مفهوم الفائض الاقتصادي من مؤلفات معظم الاقتصاديين غير الماركسيين الذين كتبوا بعد مرحلة 1850-1870 فهناك أولاً التحولات الاقتصادية والاجتماعية نفسها في البلاد التي كان هؤلاء الاقتصاديون يعيشون فيها. ففي ذلك العصر كانت تلك البلاد قد بلغت مرحلة الرأسمالية المتطورة, فلم تبقَ هناك جدوى في النضال ضد التبديد الإِقطاعي لأن هذا التبديد كان قد اختفى عملياً, وفي مثل هذه الظروف كان المقدار الاقتصادي الأكثر دلالة فيما يتعلق بالنمو هو الاستثمار لا الفائض. إِضافة إِلى أن تحليلهم كان على مستوى المشروع والمستهلك. وفي هذا المستوى لا يبدو الاستثمار نابعاً من فائض اجتماعي, وإِنما يبدو صادراً عن قرار فردي. ولم تدرك الدولة الرأسمالية في مرحلة سابقة أهمية تعليل الدلائل الاقتصادية الأساسية, ومنها الادخار على مستوى الاقتصاد القومي, هذا الادخار الذي لابد منه لكي يكون الحجم الكلي للاستثمار كافياً, فقد أصبحت هذه المهمة من أبرز المهمات الاقتصادية للدولة بعد الحرب العالمية الأولى لمعالجة إِفرازات الدورة الاقتصادية وكوارثها ولاسيما بعد صدور كتاب جون مينارد كينز «النظرية العامة» ونظريته في أسلوب معالجة الأزمات الاقتصادية. لقد استنتج الاقتصاديون المحدثون أن عملية الادخار غير عملية الاستثمار وأن المدخر غير المستثمر, وأن الحوافز على الادخار غير الحوافز على الاستثمار, وبينوا أن الأموال المدخرة تتعادل مع الأموال المستثمرة, لا عن طريق سعر الفائدة, ولكن عن طريق الدخل القومي. ويحدث ذلك عند أي مستوى من الدخل القومي. الادخار في الفكر العربي والإسلامي : لا يجد الباحث في المصادر المتوافرة عن الحضارة العربية الإِسلامية مدارس اقتصادية بالمعنى الحديث للكلمة, ولكنه يجد الكثير من الأفكار والقواعد الاقتصادية التي تستمد من القرآن الكريم أو السنة الشريفة أو فقه الصحابة والفقهاء المسلمين الذين جاؤوا بعدهم, كما يجد الكثير من الشروح في كتابات العلماء والفلاسفة العرب. ففي مجال الادخار يقر الإِسلام الوظيفة الاجتماعية المهمة للمال المدخر ويبدو ذلك في تحديده للالتزامات الواقعة على مالك المال في استثمار ماله فيما يفيد والتزام الزكاة والإِنفاق في سبيل الله, وعدم استعمال المال على نحو يلحق الضرر أو الأذى بالآخرين أو بمصلحة الجماعة, وعدم الإِبقاء على المال عاطلاً وعدم جواز اكتنازه وعدم الإِسراف في إِنفاقه. وكان لابن خلدون أهمية كبيرة في الفكر الاقتصادي, ويذكر في دراساته أن العمل يوجد القيمة, ويبين أهمية تقسيم العمل في زيادة إِنتاجية العامل وفي زيادة الدخل, وقد أشار إِلى دور المعادن النفيسة في الجهاز الاقتصادي من حيث إِمكان استخدام الذهب والفضة نقوداً ووسيطاً في المبادلات, وبيّن كيف تؤدي زيادة الطلب على السلع إِلى ارتفاع أسعارها, وأشار إِلى سوء توزيع أعباء الضرائب وأوصى بالتخفيف من الضرائب لآثارها الاقتصادية. ففي واقع الأمر اهتم ابن خلدون بالظواهر الاقتصادية الجزئية, كما اهتم بالاقتصاديات الكلية, فهو يقرر مثلاً أن الطلب يزيد بزيادة الدخل, ويقرر أن الدخل يتوقف على الإِنتاج وأن إِنفاق شخص أو قطاع, هو دخل لشخص آخر, أو قطاع آخر. وزيادة الطلب, عند ابن خلدون, تزيد الإِنتاج من الصناعات القائمة, كما تولد صناعات جديدة. ولقد أبرز ابن خلدون أهمية الادخار في التنمية إِذ يقول: «ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية, ثم زاد الترف تابعاً للكسب وزادت عوائده وحاجاته, واستنبطت الصنائع لتحصيلها, فزادت قيمها وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية, ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول. وكذا في الزيادة الثانية والثالثة, لأن الأعمال الزائدة تختص بالترف والغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش. فما كان عمرانه من الأمصار أكثر وأوفر كان حال أهله في الترف أبلغ من حال المصر الذي دونه.. حتى تنتهي إِلى الأمصار التي لا توفي أعمالها بضروراتها, ولا تعد من الأمصار, إِذ هي من قبيل القرى والدساكر, فلذلك تجد أهل هذه الأمصار الصغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر والخصاصة, كما أن أعمالهم لا تفي بضروراتهم, ولا يفضل ما يتأثلونه كسباً, ولا تنمو مكاسبهم, وهم لذلك مساكين محاويج إِلا الأقل النادر».